كربلاء، المدينة المقدسة التي حملت إرثاً ثقافياً وحضارياً عظيماً، كانت عبر العصور مركزاً للعلم والأدب ومنارة للفكر والمعرفة،على مدار قرون، اجتمع فيها العلماء والأدباء في المدارس الدينية والحوزات العلمية والمساجد، التي كانت موئلاً للبحث والنقاش وميداناً لإثراء الثقافة الإسلامية.
في تلك الحقبة التي لم تكن الطباعة منتشرة فيها، ازدهرت تجارة الكتب بشكل لافت، حيث كانت تلك الكتب تُعد كنوزاً أدبية لا تُقدّر بثمن، وقد اعتمد بيعها على أسلوب المزادات، حيث تُعرض الكتب أمام الجمهور، ويفوز بها من يدفع أعلى سعر، وكانت هذه الطريقة شائعة في كربلاء، نظراً لأهمية الكتب في حياة العلماء والأدباء الذين شكّلوا شريحة كبيرة من سكان المدينة، في بعض الأحيان، عندما يتوفى أحد العلماء أو الأدباء، تضطر عائلته إلى بيع ثروته لتأمين احتياجاتها، والكتب كانت ثروة العلماء والادباء وكنزاً ثميناً للكربلائيين.
أقيم أحد أشهر مزادات الكتب في كربلاء في الجانب الأيمن من تكية البكتاشية داخل الصحن الحسيني الشريف، وقد نظمه المرحوم عبد المجيد الكتبي عصر كل يوم جمعة، هذا المزاد كان يزخر بالكتب القيمة التي تنوعت موضوعاتها بين الفقه والعقائد واللغة العربية والمنطق والفلسفة والرياضيات والفلك والتاريخ وعلوم أخرى، مما جعله ملتقى فكرياً لعلماء وأدباء المدينة وزوارها، ولم يكن صاحب هذا المزاد غريباً عن عالم الكتب بل كان من أصحاب العلم ايضاً،حضي من رفعة ومقام لدى العامة ونال قسطاً وافراً من المعرفة، فقد ذكره صاحب الذريعة الى تصانيف الشيعة آغا بزرك الطهراني بقوله:هو السيد عبد المجيد بن رضا الحسيني وله كتاب طبع سنة 1345هـ تحت عنوان ( ذخيرة الدارين فيما يتعلق بالحسين واصحابه) وبموته انقطع هذا المزاد بمدة وجيزة.
تُظهر الوثائق التاريخية أهمية هذه المزادات، حيث عُثر على العديد من المخطوطات في خزانة الروضة الحسينية المقدسة تحمل إشارات إلى شرائها من هذا المزاد، إحدى هذه الوثائق تعود إلى عام 1132هـ، حيث كتب أحدهم على ظهر كتاب: (قد اشتريته من هرج بأربعة قران أبيض الواثق بالله الغافر بن محمد حسين محمد باقر) ،هذه العبارات ليست مجرد دليل على عملية البيع، بل تعكس قيمة الكتب كجزء من تراث المدينة وثقافتها.
إن المزادات التي كانت تُقام في كربلاء تُبرز مدى تقدير سكانها للعلم والثقافة. كانت الكتب أكثر من مجرد أوراق، كانت ذخائر فكرية وحضارية تُجسد الروح العلمية للمدينة التي بقيت على مر العصور مركزاً للإشعاع الثقافي والفكري.
راجع
سلمان هادي آل طعمة،حكايات من كربلاء،دار الجوادين،دمشق،2006،ط1،ص33