في مشهد ملحمي خالد لا تغيب عنه الشمس، رسم شهداء كربلاء لوحة الفتح الخالد بالدم والولاء، فكانوا "البالغين الفتح" في ميدان الصبر واليقين، إلا أن أسماء أولئك العظام، ممن استُشهدوا في صحبة الإمام الحسين "عليه السلام"، لم تسلم من عبث القرون وتضارب الروايات، فغابت هوياتهم أو اختلطت، وضلّ طريقَهم كثيرٌ من الباحثين قديماً وحديثاً.
في سؤالٍ مؤرق ظلّ معلقاً على جدران التاريخ، عن هوية كثير من الشهداء الحقيقيين الذين ناصروا سبط رسول الله "صلوات الله عليهما " في موقعة الطف، وما هي أسماؤهم الحقيقية؟ وما انتماءاتهم العشائرية والقبلية؟ حيث بدا الجواب عصياً، تعترضه تضاربات المصادر، وتراكمات التصحيف، وسوء نقل النسّاخ عبر العصور، فجاء كتاب "البالغون الفتح" الصادر عن مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ليرفع الستار عن هذه المعضلة بمنهج علمي صارم، قائم على الرجوع إلى أقدم المصادر وأوثقها.
وضمن هذا العمل البحثي الفريد، كشف مؤلف الكتاب، الأستاذ عبد الأمير القريشي، عن أبرز معوقاته في تحقيق أسماء الشهداء، والتي كان من أبرزها التكرار بين الاسم والكنية واللقب لنفس الشخصية، والتحريفات التي أوردها النساخ في المخطوطات، فضلاً عن وجود روايات متأخرة لا سند لها، وخصوصاً في المصادر الحديثية للقرن الرابع عشر الهجري، إلى جانب الاعتماد غير المحقق لبعض المؤلفين على روايات بلا توثيق أو تحقيق نقدي.
هذا وقد اعتمد القريشي على ثلاث منابع أساسية لتوثيق الأسماء، أولها "تسمية من قُتل مع الحسين" للفضيل بن الزبير في القرن الثاني الهجري، والذي يُعدّ أقدم مصدر شيعي ذكر أسماء شهداء الطف، حيث وثّق (107) شهيداً، منهم (20) هاشمياً، مع ذكر قبائلهم وأسماء قاتليهم.
إلا أن هنالك (25) اسماً في هذا الكتاب، لا تجد لها أثراً في أي مصدر آخر، مما أثار الشك في بعضهم، كما نُسبت أسماء لأعداء معروفين للإمام الحسين "عليه السلام" مثل "كثير بن عبد الله الشعبي"، ما يدل على تحريف نسخي محتمل.
ثاني هذه المنابع، هي "زيارة الناحية المقدسة" والتي ذكرت (63) اسماً من غير الهاشميين، نُسب (47) منهم إلى قبائلهم، حيث تعدّ هذه الزيارة مصدراً روحياً وتاريخياً فريداً، رغم اختلاف بعض النسخ في الأسماء.
أما المنبع الثالث، فكان المصادر الحديثية المعاصرة وتحديداً في القرن الـ (14) الهجري، والتي كان من أبرزها "تنقيح المقال" للشيخ المامقاني، حيث جمع تراجم موسعة دون توثيق واضح، فيما كانت أغلب رواياته مرسلة وغير معزوة، وهو ما جعل باحثين كباراً كـ "التستري" يشككون بها، ليأتي الشيخ "محمد السماوي" لاحقاً ويعيد نشر ذات الروايات في كتابه "إبصار العين" مع تغييرات طفيفة فقط.
أمام هذا التحدي الهائل، عاد فريق مركز كربلاء إلى الجذور، مستعيناً بالمصادر الخاصة بفترة ما بين القرنين الثاني والعاشر الهجريين، واضعاً كل اسم أمام معايير التوثيق والنقد، ليخرج بثلاثية علمية بعنوان "البالغون الفتح"، والتي جمعت الأسماء التي ثبتت بقرائن قوية وشهادات معتبرة، لتكون وثيقة دامغة في وجه النسيان والتحريف.
المصدر: عبد الأمير القريشي، البالغون الفتح في كربلاء، شهداء قبل الواقعة، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2019، ج4، ص22-24