لم يعد التزوير في سرد الأحداث مجرد خطأ بشري أو اجتهاد عابر، بل أصبح سلاحاً بيد أصحاب السلطة والأيديولوجيا، فالتاريخ "كما يُقال" يُكتَب بأقلام المنتصرين، لكن المأساة هنا حين تُختل فيه معايير العلم، وتُستبدل بالتحيّز والعقيدة والمصلحة.
وكثيرة هي الوقائع التي طالها التحريف، لا لأن الأدلة غائبة، بل لأن الإرادة في طمس الحقيقة كانت حاضرة، فكما تؤكد المؤرخة البريطانية "شارلوت ليديا رايلي"، فإن إعادة كتابة التاريخ ليست عملية بريئة دوماً، بل وسيلة لتبييض صفحات، أو حذفها بالكامل.
وهذا ما يواجهه الجمهور تحديداً في ملف من أخطر ملفات الوعي الشيعي، وهو عدد أصحاب الإمام الحسين "عليه السلام" في كربلاء، فلماذا يتم التشكيك في العدد؟ ولماذا تُصر بعض الأقلام على تضخيمه أو تصغيره خارج إطار الموضوعية؟ وهل هو مجرد اختلاف في المصادر؟ أم هو استهداف منهجي للقضية كلها؟
وفي العقيدة الإمامية، فإن كربلاء ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل اختبار دائم للولاء والبراءة، كما في نص الزيارة المشهور “يا أبا عبد الله، إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة...”
ومن هنا فإن أي عبث في تفصيلات الحدث الحسيني ومنها عدد شهدائه، هو في حقيقته محاولة لهدم رمز ديني حيّ، وتشويش على الوعي الجماهيري المستبصر بثورة سيد الشهداء "عليه السلام".
ولذلك كان من الواجب العلمي والشرعي الوقوف بصرامة أمام محاولات التشكيك، التي لا تستند إلى تحقيق علمي، بل إلى مغالطات تاريخية وأهواء مذهبية، قديمة وحديثة، بدأت منذ العصر الأموي، وما تزال قائمة بأقنعة جديدة.
فمن هذا المنطلق، يبرز كتاب "أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك... جدلية العدد"، لمؤلفه الأستاذ عبد الأمير القريشي، والذي لم يكتبه بدافع العاطفة أو الحماسة، بل انطلق من قاعدة تحقيق علمي صارم، معتمداً على أقدم وأوثق المصادر الإسلامية، سنيّها وشيعيّها من المراجع المحققة والمعتمدة لدى المدارس التاريخية الأصيلة.
تجدر الإشارة إلى أن ما تطمح هذه الحلقة الافتتاحية من السلسلة، إلى ترسيخه، هو أن تشويه عدد الشهداء ليس مجرد خطأ إحصائي، بل معركة وعي تتطلب جبهة يقظة من الباحثين والمثقفين وأبناء الأمة، الذين لا يقبلون بتقزيم دماء كربلاء أو تحريف أعداد رموزها.
والدفاع هنا ليس عن رقم، بل عن قضية وثورة وهوية، وعن أناس كتبوا أسماءهم بدمائهم في سفر الخلود، فلا يُرضي أي شخص منصف أن يُمحى أثرهم من كتب التاريخ، أو يُخدع الأجيال عنهم، بدعوى التشكيك العلمي أو الحياد الأكاديمي الكاذب.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص29-30.