منذ سقوط النظام السابق في العراق عام 2003م، برزت صلاة الجمعة بوصفها أكثر من مجرد ممارسة عبادية شرعية، بل كركيزة محورية في المشهد الديني والسياسي والاجتماعي العراقي.
ولقد أدركت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، بعمق رؤيتها وبُعد نظرها، أهمية إعادة إحياء هذه الشعيرة الجامعة، لتكون منبراً لإيصال صوت الحق، وتصحيح المسار، وتوجيه الأمة نحو وعي مسؤول يواكب المتغيرات.
وفي هذا السياق، وجّهت المرجعية معتمديها في مختلف أنحاء العراق بإقامة صلاة الجمعة، وكان منبر العتبة الحسينية المقدسة في كربلاء من أبرز وأهم هذه المنابر، إذ غدا نبراساً يهتدي به المؤمنون، ودرعاً صلبًا يحمي هوية الطائفة فكرياً وتربوياً وعقائدياً وسط محيط متلاطم بالأزمات والتحديات.
ومنذ ذلك الحين، تحولت خطب الجمعة في العتبة الحسينية المقدسة إلى حدث وطني وديني ينتظره الملايين بشغف كبير، فالكلمات التي تُلقى من على هذا المنبر لا تمثّل فقط توجيهات دينية، بل رسائل مباشرة إلى الشعب العراقي بكل أطيافه، بل وحتى للسياسيين وصنّاع القرار الذين باتوا يتابعون الخطبة بإهتمام بالغ، لما تحمله من مواقف حاسمة وتحليلات دقيقة تعكس نبض الشارع وهموم الناس.
وكانت تلك الخطب لا تنحصر في الوعظ التقليدي، بل تتناول قضايا فكرية حساسة، وظواهر اجتماعية متفاقمة، وتحديات تربوية وعقائدية، مما يجعلها بمثابة صمام أمان يمنع الانحرافات الفكرية ويُحبط محاولات التشويش على وعي الأمة، وفي ظل الفراغ الفكري الذي يعانيه العالم الإسلامي اليوم، تبرز الخطبة الدينية كقلعة حصينة أمام موجات التغريب والتيارات المنحرفة.
ويعود هذا التأثير الكبير إلى كفاءة وورع من يعتلي هذا المنبر، حيث تختلف مستويات الخُطباء بحسب علمهم وتقواهم وتجربتهم، ولكن يبقى المثل الأعلى الذي يستلهمون منه روح الخطابة هو رسول الله "صلى الله عليه وآله"، الذي كان سيد الخطباء، وأفصح من نطق بالضاد، وقد تلقت الأمة عن طريق عترته الطاهرة إرثاً خالداً من خطبه ومواعظه التي لا تزال تُروى وتتداول حتى اليوم.
وهكذا، لم يعد منبر الجمعة في كربلاء مجرد طقس ديني أسبوعي، بل أصبح مرآة تعكس وجدان الأمة، ونداء يوقظ الضمير، وعهداً يتجدد مع المبادئ والقيم في كل أسبوع.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، قانون الإبتلاء الإلهي وفلسفته، 2021، ص1-2.