طوال القرون العشر الماضية، لم تكن كربلاء مجرد مدينة للزيارة والدموع، بل كانت وما زالت منبراً للفكر الإسلامي الأصيل، ومركزاً مشعّاً للنهضة العلمية والأدبية التي تخطّت حدود العراق لتبلغ آفاق العالم الإسلامي برمّته.
في هذه الأرض التي تحتضن ضريح سيد الشهداء الإمام الحسين "عليه السلام"، نهضت الحوزة العلمية، وازدهرت المدارس الدينية، وتخرّج منها فقهاء ومجتهدون، وأدباء كبار، وشعراء نابغون، لتصبح كربلاء "كعبة العلوم" في القرن الثالث عشر الهجري.
هذا التحوّل العلمي الكبير كان ثمرة جهود الإمام المجدد والمرجع الكبير "الآغا محمد باقر الوحيد البهبهاني" (ت 1205هـ)، الذي أسّس نهجاً علمياً متيناً جعل من كربلاء منارةً يقصدها طلاب العلم من كل حدب وصوب.
هذا وقد توالى على حمل راية العلم بعده تلاميذه الكبار، أمثال السيد "مهدي بحر العلوم" (ت 1212هـ) والشيخ "جعفر كاشف الغطاء" (ت 1228هـ)، فازدادت كربلاء بهاءً وسطوعاً، وأصبحت تنازع مدينة النجف الأشرف في الزعامة الدينية والفكرية خلال تلك الحقبة.
لكنّ رياح السياسة ما لبثت أن عصفت بهذه المدينة العلمية، فكانت الغارات الوهابية البربرية من جهة، والضغوط العثمانية القمعية من جهة أخرى، سبباً في إضعاف الحركة العلمية، ما أدى تدريجياً إلى انتقال مركز الثقل الديني والعلمي نحو النجف الأشرف، وخاصةً بعد وفاة المرجع الكبير "شريف العلماء المازندراني" (ت 1246هـ)، وظهور الفقيه الموسوعي الشيخ "محمد حسن صاحب الجواهر" في النجف الأشرف، والذي جذب إليه الأنظار وطلاب العلم من كل حدبٍ وصوب.
ورغم كل هذه التحديات، لم تخفت شعلة كربلاء العلمية والدينية، بل بقيت متّقدة، محافظةً على مكانتها بين الحواضر الإسلامية، ورافداً لا ينضب للفكر والمعرفة في العالمين العربي والإسلامي.

المصدر: حيدر مجيد هدو، مخطوطات كربلاء المقدسة، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2019، ص11-12.