لم تكن مدينة سيد الشهداء "عليه السلام" مجرد محطة للزيارة أو مهداً للبكاء على الأطلال، بل كانت وما زالت حاضرةً فكريةً نابضةً بالعلم، ومنبثقاً للمعرفة، ورافداً ثقافياً أسهم في صنع الوعي وتكوين الرأي.
ومنذ القرن الرابع الهجري، حين بسط عضد الدولة البويهي رعايته على كربلاء، بدأت تتشكل ملامح البيئة العلمية والثقافية فيها، حيث احتضنت المدينة مراكز بحث ودراسات دينية وفكرية، وأنتجت موجات متتابعة من العلوم التي لم تقتصر على المجال الديني، بل امتدت إلى الفلسفة، والأدب، والاجتماع، والتاريخ، وأسست لحالة من الحراك المعرفي الذي مهّد فيما بعد لنهضة صحفية ذات طابع نضالي وروحي مميز.
وكان من بين أبرز عوامل انتعاش الصحافة في كربلاء هي المساجد، إذ لعبت دوراً مركزياً في رفع الوعي وتوليد المعرفة، كما لم تكن المساجد مجرد أماكن للعبادة، بل كانت فضاءات تعليمية نشطة، تحتضن حلقات الدرس والنقاشات الفكرية اليومية، وتُخرّج من تحت قبابها عشرات المفكرين والعلماء.
وتشير الوثائق إلى أن كربلاء ضمت أكثر من مائة مسجد في تلك الحقبة، والتي توزعت على مختلف أحيائها، وتحولت إلى مراكز إنتاج للمعرفة الشفهية والكتابية، حيث جلس العلماء وألقوا دروسهم، ونسج الطلاب على منوالهم، فكانت هذه المساجد بمثابة مطابع فكرية قبل ظهور المطبعة الورقية.
ومن بين المساجد البارزة التي تركت بصماتها في حركة الوعي الصحفي والفكري، هو مسجد "رأس الحسين"، الذي كان أحد أعرق أماكن التعليم الديني في المدينة، ومسجد "عمران بن شاهين"، الذي كان مأوى لجلسات كبار العلماء، ومسجد "الشهيد الأول"، حيث تبلور الفكر الفقهي المقاوم.
إلى جانب هذه المساجد، فقد برز مسجد "الحاج ميرزا علي الطباطبائي"، أحد رموز التنوير الديني، وجامع "الآغا باقر البهبهاني"، الذي شكّل منارة علمية للمناظرات، وجامع "الشيخ يوسف البحراني"، الذي أنجب كبار الفقهاء، فضلاً عن جامع "السيد محمد مهدي الشهرستاني" ومسجد "الشيخ مرتضى الأنصاري"، وهما شاهدان بارزان على تراكم طبقات من المعرفة.
وبفضل هذا الإرث الديني والفكري الذي رعته المساجد، وُلدت الصحافة الكربلائية كمشروع مقاومة، ونَفَس وعي، ووسيلة لنقل الحرف إلى ساحة التغيير، فكانت كل صحيفة تصدر في كربلاء تنبض بصوت المنبر، وتتنفس من أرواح الشهداء.
ختاماً، فقد أدرك أبناء كربلاء أن الكلمة ثورة، وأن الصحافة حين تكتب من فم المسجد، فإنها لا تخون الحقيقة، ولا تجامل الطغيان، بل تواصل سيرة عاشوراء بأحبار لا تجف ولا تنضب.
المصدر: سلمان هادي آل طعمة، صحافة كربلاء، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ص9-10.