منذ القرون الماضية، شكّلت مدينة كربلاء المقدسة محوراً حضارياً ودينياً استثنائياً، جذبت أنظار الرحّالة والمستكشفين من الشرق والغرب، الذين دونوا مشاهداتهم عنها بانبهار في مذكراتهم وتقاريرهم، لتبقى شهاداتهم وثائق حية تروي قصة مدينةٍ جمعت بين القداسة والتجارة، والإيمان والحركة الإنسانية المتدفقة.
ففي عام 1803م، زار الرحالة الهندي "أبو طالب خان" المدينة، فوصفها بأنها "تتألف من ثلاثة أطراف أو محلات رئيسة تشكّل قصبة كربلاء آنذاك، وهي آل فائز، وآل زحيك، وآل عيسى"، وقد أبدى إعجابه بتنظيمها العمراني والاجتماعي رغم محدودية مواردها في تلك الحقبة، مما يكشف عن جذور التمدّن الراسخة في نسيجها الاجتماعي.
أما الرحالة الفرنسي "ڤيكتور فونتانييه Victor Fontanier"، الذي مرّ بها عام 1824م، فقد أشار في مذكراته إلى أن “مئة ألف أجنبي يمرون سنوياً بمدينة بغداد في طريقهم إلى زيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء”، مضيفاً أن هذا الزخم البشري الهائل جعل من المنطقة “مركزاً تجارياً حيوياً يضج بالحركة والبيع والشراء”، وهو ما يعكس الدور الاقتصادي الذي لعبته كربلاء بوصفها محطة كبرى في شبكة التجارة الدينية الممتدة بين الشرق والغرب.
ومع تزايد أعداد الزائرين والحجاج، اتسعت أهمية المدينة الاستراتيجية، فتم في عام 1858م ربطها بسكك الحديد القادمة من بغداد في عهد الوالي العثماني "عمر باشا"، بالاتفاق مع الحكومة البريطانية، في خطوةٍ عدّها المؤرخون من أوائل مشاريع الربط الحديثة التي ساهمت في تسهيل تنقّل الزائرين والتجار بين المدينتين.
وفي عام 1864م، سجّل الرحالة الألماني "أوغست هاينريش بيترمان August Heinrich Petermann" أن عدد زائري كربلاء بلغ نحو ستين ألف زائر سنوياً، وهو رقم كبير بمقاييس تلك المرحلة التاريخية، وفي العام نفسه، زارها المستكشف البريطاني وعضو الجمعية الجغرافية البريطانية، "جون أشر John Ussher"، فرصد النشاط الديني والتجاري المتصاعد، مشيراً إلى أن هذه الحركة “أعادت إحياء الطرق التجارية القديمة وأمّنتها من قطاع الطرق”، مما جعل كربلاء مركزاً اقتصادياً دينياً نابضاً بالحياة.
ولعلّ أبرز ما ميّز المشهد الكربلائي آنذاك هو التداخل العميق بين الأسواق والمراقد المقدسة، حيث نشأت الأسواق حول الأضرحة، ممتدة أمام مداخلها، فلا يكاد الزائر يدخل حرم الإمام الحسين "عليه السلام" إلا بعد أن يعبر من بين صفوف التجار والحرفيين الذين وجدوا في مجاورة المراقد المباركة مصدر بركة ورزق، وهكذا اندمجت المؤسسات الدينية والتجارية في نسيج واحد، لتصنع معاً هوية كربلاء التي ما زالت قائمة حتى اليوم كمدينة تجمع بين العبادة والعمل، وبين القداسة والحياة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الاجتماعي، 2020، ج1، ص46-47.