في قلب كربلاء، حيث تتشابك طبقات التاريخ مع عبق القداسة، برز في القرن التاسع عشر معلم أثري مهيب حمل اسم "الجامع الناصري"، والذي شُيّد بأمر من "ناصر الدين شاه القاجاري" سنة (1276هـ / 1860م)، ليكون شاهداً على عراقة العمارة الإسلامية في كربلاء المقدسة خلال تلك الحقبة.
يقع هذا الجامع بحسب المصادر الواردة في موسوعة كربلاء الحضارية، إلى الشمال من الروضة الحسينية الشريفة، في منطقة تعدّ من أقدس بقاع المدينة، إلا أن الغموض ظلّ يلفّ موقعه الحقيقي، إذ يرى الدكتور "عبد الجواد الكليدار" أن ناصر الدين شاه أقام الجامع فوق باب الرأس الشريف داخل الحرم الحسيني نفسه، بينما يذكر المؤرخ السيد "سلمان آل طعمة" أنه كان يقع شمال الروضة، دون أن يجزم بدخوله ضمن حدود الصحن الشريف.
وهذا التباين في الروايات، كما يرى باحثو مركز كربلاء للدراسات والبحوث، لا يُضعف من أهمية الجامع، بل يضيف إليه هالة من الغموض التاريخي، تدفع الباحثين المعاصرين إلى إعادة قراءة الوثائق والخرائط العثمانية والبريطانية لتثبيت موضعه الدقيق.
لكن الأكيد أن الجامع لم يدم طويلاً، إذ أُزيلت معالمه تماماً في منتصف القرن العشرين، حين قرر متصرف كربلاء "عبد الرسول الخالصي" عام (1368هـ / 1948م) شقّ شارعٍ يحيط بالحرم الحسيني الشريف بعرض ثلاثين متراً لتوسيع الممرات أمام الزائرين، فكان من تبعات المشروع، هدم الجامع الناصري مع عدد من الأبنية القديمة الملاصقة للصحن.
وفي العام الذي تلاه (1949م)، شُيّدت ثلاثة أبواب جديدة للعتبة الحسينية لتخفيف الزخم عن المداخل القديمة، وهي: باب الرجاء، وباب الكرامة، وباب الرأس الشريف (باب الحرّ)، حيث كان الأخير يواجه مرقد الحرّ بن يزيد الرياحي (رضوان الله عليه).
ويُحتمل – بحسب ما أورده الكليدار – أن الإيوان الناصري الذي أُقيم ضمن التوسعة هو ما أطلق عليه المؤرخون لاحقاً اسم "الجامع الناصري"، إذ لم يُعثر على أي وثيقة أو نقش يدل على وجود جامع مستقلّ بهذا الاسم.
وهكذا، اندثرت ملامح الجامع الناصري بين أعمال التطوير والتوسعة، إلا أن اسمه بقي يتردد في ذاكرة الباحثين وأحاديث المعمرين، كرمز لمرحلةٍ معمارية شهدت التفاعل بين القداسة الدينية والهوية العمرانية في كربلاء المقدسة.
واليوم، يعيد مركز كربلاء للدراسات والبحوث في العتبة الحسينية المقدسة، فتح هذا الملف ضمن موسوعته الحضارية الشاملة بوصفه جزءاً من مشروع توثيق المساجد المندثرة، في محاولةٍ لاستعادة ما محته الجرافات وتركه التاريخ على هامش الخرائط القديمة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الاجتماعي، 2020، ج3، ص20-21.