في قلب المدينة التي تختزن وجع التاريخ ونور الأرواح، ينهض ضريح متواضع الهيكل عظيم المعنى، يُعرف اليوم بـ"بستان أبو الفهد"، حيث يرقد أحد أركان العلم والعرفان والزهد، الشيخ أحمد بن فهد الحلي (757 - 841هـ)، العالم الذي نقش اسمه في جبين القرنين الثامن والتاسع الهجريين بمداد الورع والتقوى.
ولد "جمال الدين، أبو العباس، أحمد بن شمس الدين محمد بن فهد الحلي الأسدي" في سنة 757 هـ (أو 756هـ)، في مدينة الحلة التي أنجبت الفقهاء والعرفاء، لكنه سرعان ما تجاوز حدود مدينته، ليصبح منارةً مضيئة في عالم الفقه والحديث والعرفان، كان زاهداً عابداً، اجتمع في شخصه علم الأصول والفروع، المعقول والمنقول، الظاهر والباطن، حتى بدا كأنه مرآة لعلم السلف وضمير التقوى في آن واحد.
ما يُذهل الباحثين في شخصية هذا العالِم أنه لم يكتفِ بالدرس والتدريس، بل فتح قلبه للمعرفة الربانية، فسارت سيرة حياته بين أهل العلم كـ "مأثرة حيّة"، وامتلأت كتبه بمزيج نادر من الدقة الفقهية والرهافة الروحية، لتتحول مؤلفاته إلى جسور بين العقل والنص، وبين العالم وربه.
تتلمذ على أيدي الكبار، منهم الشيخ علي بن هلال الجزائري، وأخذ عن أعلام من تلامذة الشهيد الأول وفخر المحققين، كالفاضل المقداد وبهاء الدين المقري الأحسائي، وتقاطعت رحلته العلمية مع ابن المتوج البحراني، حتى أن كليهما كتبا شرحاً منفصلاً على كتاب "الإرشاد" في واقعة علمية نادرة.
من أبرز مؤلفاته "المهذب البارع"، و"عدّة الداعي"، و"كفاية المحتاج في مناسك الحاج"، و"شرح الألفية"، و"اللمعة الجلية في معرفة النية"، و"المقتصر من شرح المختصر"، وغيرها من الكتب التي لا تزال تُدرّس وتُناقش وتُنقّب حتى اليوم في أروقة الحوزات العلمية.
وفي عام 841 هـ، غابت شمسه الوضّاءة في كربلاء بعد (85) عاماً من النقاء الفكري والصفاء الروحي، فدُفن في المكان الذي تحوّل لاحقاً إلى "بستان أبو الفهد"، الواقع اليوم في شارع قبلة الإمام الحسين "عليه السلام"، حيث يرقد تحت قبة قاشانية بديعة، ضريحه محاط بالزائرين، وصندوقه الخشبي المزين يهمس بالحكايات.
لم يكن العلامة الحلي مجرد فقيه عارِف، بل صفحة من كتاب الروح الإسلامية، رجل جمع الورع والعلم، وختم حياته بخلود يليق بأهل الله، فهل آن للذاكرة أن تُعيد له ما يستحق من الضوء؟
المصدر: كامل سلمان الجبوري، وثائق الحوزة العلمية في كربلاء منذ نشوئها حتى عام 1444هـ / 2023م، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ج1، ص21.