في صفحات التاريخ الحسيني، ظهر رجال سطروا المجد لا بالحبر، بل بالحديد والدم، وكانوا شعلة وفاء لا تنطفئ، فمن بين هؤلاء يبرز اسم المجاهد الشجاع "عمارة بن أبي سلامة الدالاني"، كفارسٍ استثنائي تحدّى الموت، واخترق حصار الطغاة ليبلغ ميعاد الشهادة مع الحسين "عليه السلام".
وفي لحظة فارقة من التأريخ، حين كانت جيوش ابن زياد تستعد لاجتياح كربلاء، برز "عمارة" بجرأته المعهودة، ليهجم على معسكر "النخيلة" التابع للأمويين والذي كان يشكل مركز القيادة والتموين لجيش عبيد الله بن زياد، حيث كان الهجوم يهدف إلى اغتيال ابن زياد نفسه، وقد كاد أن ينجح لولا تدخّل الحراس في اللحظة الأخيرة.
ولم يتوقف "عمارة" عند هذا الحد، فبعد إفلاته من قبضة جنود ابن زياد، قرر أن يكمل طريقه نحو كربلاء، والذي لم يكن أمامه مفروشاً بالورد، بل كانت مفارز من جنود الأمويين مكلفة بمنع المجاهدين الأبرار من اللحاق بركب سبط النبي الأكرم "صلوات الله عليهما"، إلا أن هذا الفارس المغوار قرر أن لا يستأذن الموت، بل يقتحمه بكل جرأة وشجاعة.
ويذكر المؤرخ السيد "عبد الرزاق المقرم" في كتابه "مقتل الإمام الحسين" أن "عمارة" اصطدم بمجموعة من الفرسان يبلغ عديدها (500) فارس بقيادة "زُحر بن قيس الجعفي" ممن كلفوا بإغلاق طرق الكوفة المؤدية إلى كربلاء، وحين طالبه "زحر" بالرجوع، لم يُجِب بكلمة، بل ردّ برمحٍ وسيف، فهجم عليهم هجمةً أربكت صفوفهم وهزمهم شر هزيمة، ليفتح لنفسه الطريق إلى موضع سيد الشهداء "عليه السلام".
ويعلق صاحب كتاب "أنساب الأشراف" على هذه الحادثة قائلاً إن "الدالاني" لم يترك خلفه فقط جنوداً مهزومين، بل أشعل فيهم رعباً من رجل واحد كسر هيبة جيش بأكمله.
ولم تكن هذه البطولة وليدة اللحظة، فـ "عمارة" كان من خواص الإمام علي "عليه السلام"، ومن المشاركين الفاعلين في معاركه الكبرى، قبل أن ينضم إلى كوكبة أنصار الإمام الحسين "عليه السلام"، فقاتل ببسالة في واقعة الطف، وأردى العشرات من جنود بني أمية قتلى وجرحى، حتى سقط شهيداً مضرجاً بدمه، ومخلّداً اسمه في سجل الشهداء الخالدين.
لقد مثّل هذا البطل نموذجاً لفدائي لا يعرف التردد، وعبّر عن وفاء نادر لرجل أدرك أن من لم يلتحق بالحسين فليس من الأحياء، وأن نصرة ريحانة رسول الله "صلوات الله عليهما"، ليست مجرّد عمل عسكري، بل صرخة في وجه الظلم، وبياناً حياً لمعنى أن "الحق لا يُعطى... بل يُنتزع".
المصدر: سعيد رشيد زميزم، رجال ثأروا لدم الحسين، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2021، ص16-17.