قبل واقعة الطف بأربعة وعشرين عاماً، كانت كربلاء حاضرة في ذاكرة التاريخ، لا كمدينة عامرة، بل كبقعة صامتة تختزن في ترابها نبوءة الألم القادم. ففي عام 36 للهجرة، وبينما كانت الأمة الإسلامية على أعتاب واحدة من أعقد مراحلها السياسية والعسكرية، مرّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بهذه الأرض ونزل بها ردحاً من الزمن، وهو في طريقه من الكوفة إلى صفّين.
وتذكر موسوعة كربلاء الحضارية الصادرة عن مركز كربلاء للدراسات والبحوث أن ذكر كربلاء عاد ليلعب دوراً مؤثراً على مسرح التاريخ بعد مضي أربعة وعشرين عاماً على فتحها، حين أبصرها الإمام علي (عليه السلام) بعين القائد وبصيرة العارف، فرأى معالمها الدارسة، وآثارها الخاوية، وما يحيط بها من كرب وبلاء، لتستحضر في نفسه العظيمة مشاهد الرزايا الآتية، وكأن الأرض كانت تهمس له بما سيجري على ثراها في مستقبل قريب.
وجاء مرور الإمام بكربلاء في سياق حملة عسكرية كبرى، إذ كان متوجهاً إلى الشام لإخضاع معاوية بن أبي سفيان الذي شق عصا الطاعة ورفض الانقياد لإمام زمانه، بعد انتقال الخلافة إلى الإمام علي (عليه السلام) إثر مقتل عثمان بن عفان. وكان معاوية والياً على الشام منذ عهد أبي بكر، لكنه تمرد على السلطة الشرعية حين خرج الحكم من يد الأمويين.
خرج الإمام من الكوفة على رأس جيش قوامه خمسون ألف مقاتل، متجهاً شمالاً نحو الشام، فعبر الجزيرة الفراتية وقطع نهر الفرات، حتى اقترب من الرقة، حيث كانت الأرض تمهد لمعركة ستغيّر مسار الصراع السياسي في الدولة الإسلامية.
وفي سهل صفّين غربي الرقة، التقى الجيشان، وبدأت المناوشات بين الطلائع، ثم توقف القتال مؤقتاً. حيث وجّه الإمام دعوة للبيعة، لكنها قوبلت بالرفض، لتدخل المعركة مرحلة طويلة من الاشتباكات استمرت قرابة شهر، وكان ذلك في ذي الحجة سنة 36هـ (657م).
ومع حلول محرم سنة 37هـ، عُقدت هدنة قصيرة قضيت بالمفاوضات دون نتيجة، لتعود المعارك أكثر شراسة. وكادت الكفة أن تميل حسمًا حين اندفع الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) واخترق صفوف جيش الشام حتى اقترب من مركز القيادة، قبل أن تنتهي المعركة برفع المصاحف وفرض التحكيم، في واحدة من أكثر محطات التاريخ الإسلامي إثارة للجدل، والتي انتهت بخديعة سياسية ثبتت أقدام معاوية في الحكم.
وسط هذه الحملة المصيرية، وفي أوائل شهر ذي القعدة من عام 36هـ، نزل أمير المؤمنين بكربلاء مع خيله ورجاله. ولم تكن كربلاء يومئذٍ بأحسن حالاً مما ستكون عليه لاحقاً في عام 61هـ عند قدوم الإمام الحسين (عليه السلام). فكانت أرضاً خالية، ودياراً منهدمة، وآثاراً بالية، بلا سكان، تعلوها التلال والروابي، وتنتشر عند أطرافها نخيل متناثرة وأشجار قليلة على ضفاف الفرات المتدفق بمياهه الذهبية.
هكذا بدت كربلاء أرضاً صامتة في ظاهرها، صاخبة في قدرها، تستقبل خطى الإمام علي (عليه السلام) قبل عقود من إحتضانها الدم الطاهر للإمام الحسين (عليه السلام)، لتؤكد أن هذه البقعة لم تكن يوماً عابرة في مسيرة التاريخ، بل كانت منذ ذلك الحين محطة للوعي، والابتلاء، والرسالة.
المصدر: الكليدار، عبد الجواد، تاريخ كربلاء وعمرانها، العتبة الحسينية المقدسة، 2018، ص24-26.